فصل: من لطائف القشيري في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي العدول عن ضمير الواحد إلى الإتيان بضمير المتكلم المشارَك الدلالة على أن هذه المحامد صادرة من جماعات، ففيه إغاظة للمشركين إذ يعلمون أن المسلمين صاروا في عِزة ومَنَعة، ولأنه أبلغ في الثناء من أعبد وأستعين لئلا تخلو المناجاة عن ثناء أيضًا بأن المحمود المعبود المستعان قد شهد له الجماعات وعرفوا فضله، وقريب من هذا قول النابغة في رثاء النعمان بن الحارث الغساني:
قعودا له غسان يرجون أوْبَة ** وتُرك ورهطُ الأعجمين وكابُل

إذ قصد من تعداد أصناف من الأمم الكناية عن عظمة النعمان وكثرة رعيته.
فكَأَنَّ الحامد لما انتقل من الحمد إلى المناجاة لم يغادر فرصة يقتنص منها الثناء إلا انتهزها.
ووجهه تقديم قوله: {إياك نعبد} على قوله: {وإياك نستعين} أن العبادة تقرُّب للخالق تعالى فهي أجدر بالتقديم في المناجاة، وأما الاستعانة فهي لنفع المخلوق للتيسير عليه فناسب أن يقدِّم المناجي ما هو من عزمه وصنعه على ما يسأله مما يعين على ذلك، ولأن الاستعانة بالله تتركب على كونه معبودًا للمستعين به ولأن من جملة ما تطلب الإعانة عليه العبادة فكانت متقدمة على الاستعانة في التعقل.
وقد حصل من ذلك التقديم أيضًا إيفاء حق فواصل السورة المبنية على الحرف الساكن المتماثل أو القريب في مخرج اللسان.
وأعيد لفظ: {إياك} في الاستعانة دون أن يعطف فعل: {نستعين} على: {نعبد} مع أنهما مقصودان جميعًا كما أنبأ عنه عطف الجملة على الجملة لأن بين الحصرين فرقًا، فالحصر في: {إياك نعبد} حقيقي والقصر في: {إياك نستعين} ادعائي فإن المسلم قد يستعين غير الله تعالى كيف وقد قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة: 2] ولكنه لا يستعين في عظائم الأمور إلا بالله ولا يعد الاستعانة حقيقة إلا الاستعانة بالله تعالى. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.
أشار في هذه الآية الكريمة إلى تحقيق معنى لا إله إلا الله: لأن معناها مركب من أمرين: نفي وإثبات. فالنفي: خلع جميع المعبودات غير الله تعالى في جميع أنواع العبادات، والإثبات: إفراد رب السموات والأرض وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه المشروع. وقد أشار إلى النفي من لا إله إلا الله بتقديم المعمول الذي هو: {إِيَّاكَ}. وقد تقرر في الأصول، في مبحث دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة. وفي المعاني في مبحث القصر: أن تقديم المعمول من صيغ الحصر. وأشار إلى الإثبات منها بقوله: {نَعْبُدُ}. وقد بين معناها المشار إليه هنا مفصلًا في آيات أخر كقوله: {يَا أَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21] الآية- فصرح بالإثبات منها بقوله: {اعبدوا رَبَّكُمُ} وصرح بالنفي منها في آخر الآية الكريمة بقوله: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] وكقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل: 36] فصرح بالإثبات بقوله: {أَنِ اعبدوا الله} وبالنفي بقوله: {واجتنبوا الطاغوت}.
وكقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} [البقرة: 256] فصرح بالنفي منها بقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت} [البقرة: 256] وبالإثبات بقوله: {وَيْؤْمِن بالله} [البقرة: 256] وكقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الذي فَطَرَنِي} [الزخرف: 26-27] الآية- وكقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون} [الأنبياء: 25] وقوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
أي لا نطلب العون إلا منك وحدك. لأن الأمر كله بيدك وحدك لا يملك أحد منه معك مثقال ذرة. وإتيانه بقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} بعد قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتوكل إلا على من يستحق العبادة. لأن غيره ليس بيده الأمر. وهذا المعنى المشار إليه هنا جاء مبينًا واضحًا في آيات أخر كقوله: {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] الآية- وقوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} [التوبة: 129] الآية- وقوله: {رَّبُّ المشرق والمغرب لاَ إله إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلًا} [المزمل: 9] وقوله: {قُلْ هُوَ الرحمن آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك: 29] إلى غير ذلك من الآيات. اهـ.

.قال السعدي:

وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي: نخصك وحدك بالعبادة والاستعانة، لأن تقديم المعمول يفيد الحصر، وهو إثبات الحكم للمذكور، ونفيه عما عداه. فكأنه يقول: نعبدك، ولا نعبد غيرك، ونستعين بك، ولا نستعين بغيرك.
وقدم العبادة على الاستعانة، من باب تقديم العام على الخاص، واهتماما بتقديم حقه تعالى على حق عبده.
والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال، والأقوال الظاهرة والباطنة.
والاستعانة: هي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع، ودفع المضار، مع الثقة به في تحصيل ذلك.
والقيام بعبادة الله والاستعانة به هو الوسيلة للسعادة الأبدية، والنجاة من جميع الشرور، فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام بهما. وإنما تكون العبادة عبادة، إذا كانت مأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصودا بها وجه الله. فبهذين الأمرين تكون عبادة، وذكر: الاستعانة بعد: العبادة مع دخولها فيها، لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى. فإنه إن لم يعنه الله، لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر، واجتناب النواهي. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} معناه نعبدك وتستعين بك. والابتداء بذكر المعبود أتمُّ من الابتداء بذكر صفته- التي هي عبادته واستعانته، وهذه الصيغة أجزل في اللفظ، وأعذب في السمع. والعبادة الإتيان بغاية ما في بابها من الخضوع، ويكون ذلك بموافقة الأمر، والوقوف حيثما وقف الشرع.
والاستعانة طلب الإعانة من الحق.
والعبادة تشير إلى بذل الجهد والمُنَّة، والاستعانة تخبر عن استجلاب الطول والمِنَّة، فبالعبادة يظهر شرف العبد، وبالاستعانة يحصل اللطف للعبد. في العبادة وجود شرفه، وبالاستعانة أمان تلفه. والعبادة ظاهرها تذلل، وحقيقتها تعزز وتجمُّل:
وإذا تذللت الرقاب تقربًا ** مِنَّا إليك، فعزُّها في ذُلِّها

وفي معناه:
حين أسلَمْتَني لذالٍ ولام ** ألقيتني في عينِ وزاي

.فصل: في أن العبادة نزهة القاصدين:

العبادة نزهة القاصدين، ومستروح المريدين، ومربع الأنس للمحبين، ومرتع البهجة للعارفين. بها قُرَّةُ أعينهم، وفيها مسرة قلوبهم، ومنها راحة أرواحهم. وإليه أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: «أرِحنا بها يا بلال» ولقد قال مخلوق في مخلوق:
يا قوم ثاري عند أسمائي ** يعرفه السامع والرائي

لا تدعني إلا بيا عبدها ** فإنه أصدق أسمائي

والاستعانة إجلالك لنعوت كرمه، ونزلك بساحة جوده، وتسليمك إلى يد حكمه، فتقصده بأمل فسيح، وتخطو إليه بخطو وسيع، وتأمل فيه برجاء قوي، وتثق بكرم أزلي، وتنكل على اختيار سابق، وتعتصم بسبب جوده غير ضعف. اهـ.

.قال الواحدي:

{نعبد} من العبادة وهى الطاعة مع الخضوع، ولا يستحقها إلا الله عز وجل، وسمى العبد عبدا لذلته وانقياده لمولاه، وطريق معبد إذا كان مذللا بالأقدام. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
إن قلت: لِمَ قدمت العبادة على الاستعانة مع أن الاستعانة سبب فيها؟
أجاب الزمخشري: بأن العبادة وسيلة والاستعانة مقصد فقدمت الوسيلة قبل الحاجة.
قال ابن عرفة: بل الصواب العكس فالعبادة هي المقصد.
قال: وكان يمشي لنا الجواب عن ذلك بأن هذا أقرب لكمال الافتقار وخلوص النية فإنّ المكلف إذا أَقَرّ أوّلا بأن لاَ قُدْرة له على الفعل إلا بالله، ثم فعل العبادة فإنّه قد تحول نيته بعد ذلك وتزهو نفسه ويتوهّم أن الفعل الواقع منه بقدرته استقلالا، فإذا أقر بعد الفعل بأن الاستعانة له عليه إلا بالله كان نفيا للتهمة وأقرب لمقام التذلّل والخضوع.
قلت: وقال بعض الناس العبادة مقصد باعتبار الحكم الشرعي والاستعانة مقصد باعتبار نية المكلف في طلبه لأنه أخبر أنه إنما يعبد الله لا غيره، ثم أخبر أنه لا يستعين على تلك العبادة إلا بالله.
قلت: وأجاب القاضي العماد عن السؤال بثلاثة أوجه:- الأول: طلب المعونة من الله لا يكون إلا بعد معرفته ومعرفته هو التوحيد وهي العبادة.
-الثاني: يحتمل أن ترجع العبادة لتوحيد الله والاستعانة طلب معونته على حوائج الدنيا والاخرة وأول السورة في توحيد الله تعالى وآخرها للعبد كما في حديثه: «قسمت الصّلاة بيني وبين عبدي نصفين».
قدم العبادة ليكون ما هو لله بإزاء ما هو لله، وما هو للعبد بإزاء ما هو للعبد.
- الثالث: طلب المعونة عبادة خاصة وإياك نعبد عامة، والعام مقدم على الخاص. اهـ.

.من فوائد الخطيب الشربيني في الآية:

قال رحمه الله:
{إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة]، إيا ضمير منصوب منفصل وما يلحقه من الياء والكاف والهاء حروف زيدت لبيان التكلم والخطاب والغيبة لا محل لها من الإعراب وفيه أقوال أخر ذكرتها في شرح القطر.
فإن قيل: لم كرر ضمير إياك؟ أجيب: بأنه كرر للتنصيص على أنه المستعان به لا غيره.
فإن قيل: لم قدّمت العبادة على الاستعانة، أجيب: لتتوافق رؤوس الآي وليعلم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة وأيضًا لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك فرحًا واعترافًا منه بما يصدر عنه فعقبه بقوله: {وإياك نستعين} ليدل على أنّ العبادة أيضًا مما لا تتم ولا تتيسر له إلا بمعونة منه تعالى وتوفيق.
فإن قيل: لم عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب؟ أجيب: بأنّ عادة العرب التفنن في الكلام والعدول من أسلوب إلى آخر تحسينًا للكلام وتنشيطًا للسامع فيكون أكثر إسغاءً للكلام فتعدل من الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى التكلم وبالعكس فيهما فهذه أقسام أربعة ذكرها البيضاوي والتحقيق كما قاله بعض المتأخرين: أنها ستة لأنّ الملتفت إليه إثنان وكل منهما إمّا غيبة أو خطاب أو تكلم، من ذلك قوله تعالى: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم} [يونس]، الأصل بكم فهو التفات من الخطاب إلى الغيبة وقوله تعالى: {والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه} [الروم]، الأصل فساقه فهو التفات من الغيبة إلى التكلم.
والاستعانة طلب معونة وهي: إمّا ضرورية أو غير ضرورية، فالضرورية ما لا يتأتى الفعل دونه كاقتدار الفاعل وتصوّره وحصول آلة ومادّة يفعل بها فيها وعند استجماع ذلك يوصف الرجل بالاستطاعة ويصح أن يكلف بالفعل، وغير الضرورية تحصيل ما يتيسر به الفعل ويسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي أو يقرّب الفاعل إلى الفعل ويحثه عليه وهذا القسم لا يتوقف عليه صحة التكليف غالبًا وقد يتوقف كأكثر الواجبات المالية.
فإن قيل: لم أطلقت الاستعانة؟ أجيب: بأنها إنما أطلقت لأجل أنها تتناول المعونة في المهمات كلها أو في أداء العبادات واستحسن هذا الزمخشريّ قال: لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض.
تنبيه:
الضمير المستكن في نعبد ونستعين للقارئ ومن معه من الحفظة وحاضري صلاة الجماعة أو له ولسائر الموحدين أدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعل عبادته تقبل ببركة عبادتهم وحاجته يجاب إليها ببركة حاجتهم ولهذا شرعت الجماعة في الصلاة.
فإن قيل: لم قدم المفعول؟ أجيب: بأنّ تقديمه للتعظيم والاهتمام به والدلالة على الحصر، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه نعبدك ولا نعبد غيرك وتقديم ما هو مقدّم في الوجود والتنبيه على أنّ العابد ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولًا وبالذات ومنه إلى العبادة لا من حيث أنها عبادة صدرت عنه بل من حيث أنها نسبة شريفة إليه ووصلة بينه وبين الحق فإنّ العارف إنما يحق وصوله إذا استغرق في ملاحظة جناب القدس وغاب عما عداه حتى أنه لا يلاحظ نفسه ولا حالًا من أحوالها إلا من حيث أنها ملاحظة له ومنتسبة إليه ولذلك فضل ما حكي عن حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم حين قال: {لا تحزن إنّ الله معنا} [التوبة]، على ما حكاه عن كليمه موسى صلى الله عليه وسلم حيث قال: {إن معي ربي سيهدين} [الشعراء]، لأنّ الأوّل قدّم ذكر الله تعالى على المعية والثاني بالعكس. اهـ.